الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وتكون في الأعضاء الباطنة مثل قوة الدماغ على التفكير الذي لا يستطيعه غالب الناس، وعلى حفظ ما يعجز عن حفظه غالب الناس ومنه قولهم: قوة العقل.وإطلاق اسم القُوى على العقل وفيما أنشد ثعْلب:
وسمى الحكماء الحواس الخمس العقلية بالقوى الباطنية وهي الحافظة، والواهمة، والمفكرة، والمخيّلة، والحسُ المشترك.فيقال: فرس قوي، وجمل قوي على الحقيقة، ويقال: عود قوي، إذا كان عسير الإنكسار، وأسّس قوي، إذا كان لا ينخسف بما يُبنى عليه من جدار ثقيل، إطلاقًا قريبًا من الحقيقة، وهاته الحالة مقول عليها بالتشكيك لأنها في بعض موصوفاتها أشّدُ منها في بعض آخر، ويظهر تفاوتها في تفاوت ما يستطيع موصوفها أن يعمله من عمل ممّا هي حالة فيه، ولما كان من لوازم القوة أن قدره صاحبها على عمل ما يريده أشد مما هو المعتاد، والأعمالُ عليه أيسر، شاع إطلاقها على الوسائِل التي يستعين بها المرء على تذليل المصاعب مثل السلاح والعتاد، والمال، والجاه، وهو إطلاق كنائي قال تعالى: {قالوا نحن أولوا قوة} في سورة النمل (33).ولكونها يلزمها الاقتدار على الفعل وُصف الله تعالى باسم القوي أي الكامل القدرة قال تعالى: {إن الله قوي شديد العقاب} في سورة الأنفال (52).والقوة هنا في قوله: {فخذها بقوة} تمثيل لحالة العزم على العمل بما في الألواح، بمنتهى الجِد والحِرص دون تأخير ولا تساهل ولا انقطاع عند المشقة ولا ملل، بحالة القوي الذي لا يستعصي عليه عمل يريده.ومنه قوله تعالى: {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} في سورة مريم (12).وهذا الأخذ هو حَظ الرسول وأصحابه المبلغين للشريعة والمنفذين لها، فالله المشرّع، والرسولُ المنفذ، وأصحابه ووُلاةَ الأمور هم أعوان على التنفيذ، وإنما اقتصر على أمر الرسول بهذا الأخذ لأنه من خصائصه من يقوم مقامه في حضرته وعند مغيبه، وهُو وُهمْ فيما سوى ذلك كسائر الأمة.فقوله: {وأمر قومك يأخذوا بأحسنها} تعريج على ما هو حظ عموم الأمة من الشريعة وهو التمسك بها، فهذا الأخذ مجاز في التمسك والعمل ولذلك عدي بالباء الدالة على اللصوق، يقال: أخذ بكذا إذا تمسك به وقبض عليه، كقوله: {وأخذ برأس أخيه} [الأعراف: 150] وقوله: {لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي} [طه: 94].ولم يُعد فعل الأخذ بالباء في قوله: {فخذها} لأنه مستعمل في معنى التلقي والحفظ لأنه أهم من الأخذ بمعنى التمسك والعمل، فإن الأول حظ ولي الأمر والثاني حظ جميع الأمة.وجزم {يأخذوا} جوابًا لقوله: {وأُمرْ} تحقيقًا لحصول امتثالهم عندما يأمرهم.و{بأحسنها} وصف مسلوب المفاضلة مقصود به المبالغة في الحُسن، فإضافتها إلى ضمير الألواح على معنى اللام، أي: بالأحسن الذي هو لها وهو جميع ما فيها، لظهور أن ما فيها من الشرائع ليس بينه تفاضل بين أحسن ودون الأحسن، بل كله مرتبة واحدة فيما عين له، ولظهور أنهم لا يؤمنون بالأخذ ببعض الشريعة وترك بعضها، ولأن الشريعة مفصّل فيها مراتب الأعمال، فلو أن بعض الأعمال كان عندها أفضلَ من بعض، كالمندوب بالنسبة إلى المباح، وكالرخصة بالنسبة إلى العزيمة، كان الترغيب في العمل بالأفضل مذكورًا في الشريعة، فكان ذلك من جملة الأخذ بها، فقرائِن سلب صيغة التفضيل عن المفاضلة قائمة واضحة، فلا وجه للتردد في تفسير الأحسن في هذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء، وهذه الآية والتعزب إلى التنظير بتراكيب مصنوعة أو نادرة خارجة عن كلام الفصحاء، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} في سورة الزمر (55).والمعنى: واُمر قومَك يأخذوا بما فيها لحسنها.كلام موجّه إلى موسى عليه السلام فيجوز أن يكون منفصلًا عن الكلام الذي قبله فيكون استئنافًا ابتدائيًا: هو وعد له بدخولهم الأرض الموعودة، ويجوز أن تكون الجملة متصلة بما قبلها فتكون من تمام جملة {وأُمرْ قومك يأخذوا باحسنها} على أنها تحذير من التفريط في شيء مما كُتب له في الألواح.والمعنى سأبين لكم عقاب الذين لا يأخذون بها.والدار المكان الذي تسكنه العائِلة، كما في قوله تعالى: {فخسفنا به وبداره الأرض} في سورة القصص (81) والمكان الذي يحله الجماعة من حي أو قبيلة كما قال تعالى: {فأصبحوا في دارهم جاثمين} [الأعراف: 91] وقد تقدم.وتطلق الدار على م {فنعم عقبى الدار} [الرعد: 24]، وقد يراد بها مآل المرء ومصيره؛ لأنه بمنزلة الدار يأوي إليه في شأنه.وقد تقدم قريب من هذا عند قوله تعالى: {فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار} في سورة الأنعام (135).وخوطب بضمير الجمع باعتبار من معه من أصحابه شيوخ بني إسرائيل، أو باعتبار جماعة قومه فالخطاب شامل لموسى ومن معه.والإراءة من رأى البصرية؛ لأنها عديت إلى مفعولين فقط.وأوثر فعل أريكم دون نحو: سأدخلكم، لأن الله منع معظم القوم الذين كانوا مع موسى من دخول الأرض المقدسة لمّا امتنعوا من قتال الكنعانيين كما تقدم في قوله تعالى: {قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض} في سورة المائدة (26).وجاء ذلك في التوراة في سفر التثنية الإصحاح الأول: أن الله قال لموسى: {وأنت لا تدخل إلى هناك} وفي الإصحاح (34) وصعد موسى إلى الجبل نبو فأراه الله جميع الأرض وقال له: هذه الأرض التي أقسمتُ لإبراهيم قائِلًا لِنسلك أُعطيها قد أريتُك إياها بعينيك ولكنك لا تعبُرُ.ويجوز أن يكون سأريكم خطابًا لقوم موسى، فيكون فعل أريكم كناية عن الحلول في دار الفاسقين، والحلول في ديار قوم لا يكون إلاّ الفتح والغلبة، فالإراءة رمز إلى الوعد بفتح بلاد الفاسقين، والمراد بالفاسقين المشركون، فالكلام وعد لموسى وقومه بأن يفتحوا ديار الأمم الحالة بالأرض المقدسة التي وعدهم الله بها، وهم المذكورون في التوراة في الإصحاح الثالث والثلاثين من سفر الخروج خطابًا للشعب إحفظ ما أنا موصيك به ها أنا طارد من قدامك الأموريين، والكنعانيين، والحثيين، والفرزيين، والحويين، واليبوسيين، احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فَخّا في وسطك بل تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم وتقطعون سواريهم فإنك لا تسْجد لإله آخر.ويؤيده مَا روي عن قتادة أن دار الفاسقين هي دار العمالقة والجبابرة، وهي الشام، فمن الخطأ تفسير من فسروا دار الفاسقين بأنها أرض مصر فإنهم قد كانوا بها وخرجوا منها ولم يرجعوا إليها، ومن البعيد تفسير دار الفاسقين بجهتهم، وفي الإصحاح 34 من سفر الخروج احترز من أن تقطع عهدًا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها فيزنون وراء آلهتهم ويذبحون لآلهتهم فتُدعى وتأكل من ذبيحتهم وتأخذ من بناتهم لبنيك فتزني بناتهم وراء آلهتهن ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن، ولا يخفى حسن مناسبة التعبير عن أولئك الأقوام بالفاسقين على هذا الوجه.وقيل المراد بدار الفاسقين ديار الأمم الخالية مثل ديار ثمود وقوم لوط الذين أهلكهم الله لكفرهم، أي ستمرون عليهم فترون ديارهم فتتعظون بسوء عاقبتهم لفسقهم، وفيه بعد لأن بني إسرائيل لم يمروا مع موسى على هذه البلاد.والعدول عن تسمية الأمم بأسمائهم إلى التعبير عنهم بوصف الفاسقين؛ لأنه أدل على تسبب الوصف في المصير الذي صاروا إليه، ولأنه أجمع وأوجز، واختيار وصف الفاسقين دون المشركين والظالمين الشائِع في التعبير عن الشرك في القرآن؛ للتنبيه على أن عاقبتهم السوأى تسببت على الشرك وفاسد الأفعال معًا. اهـ.
|